ورقة أولى: يخرج الحيَ..
كان لافتا ومفارقا في آن واحد، أن الانتحار كأسلوب احتجاج هو ما أشعل الثورة في العالم العربي، دون أن تكون وراءه هذه المرة إيديولوجيا راديكالية متطرفة دينية أو غير دينية. الجسد المحترق يأتي بالتغيير، والأهم الجسد المحترق لا يثير نداءات الشجب لا غربية ولا شرقية. الانتقادات والرفض التي عادة ما توجه لمثل هذا الفعل كانت شبه غائبة. نقاشات الحرام والمباح اختفت تحت غبار الاحتجاج والثورات. السؤال عما إذا كانت الشعلة التي أوقدت كل هذا اللهب مقدسة أم مدنسة لم يعل أمام سؤال الشعوب التي يوحدها الظلم: متى يهربون؟ ولا في مواجهة فعل الأمر: إرحل، أو جملة الخبر الأشهر: الشعب يريد.. ألأنه موت من نمط مختلف، أم لأنه موت في ظروف جديدة. الأرجح أنه لعلة اختلاف نوع هذا الموت عن سائر أنواعه كان له التأثير الممتد الذي لا يقاوم.
لهذا ربما لم يكن متاحا للرد عليه سوى ثلاثة مواقف: موقف أولئك الذين يتماهون وروح الجسد الذي احترق، وهم من جسَد الضحية التعبير الأكثر مأساوية عن شقائهم ومعاناتهم الاجتماعية والسياسية والإنسانية، وهؤلاء أملى عليهم موقفهم ما رأينا من حركات ومظاهرات تحولت إلى ثورات سلمية دون أن يكون ردعها بالقتل والرصاص الحي عائقا أمامها في لحظة من لحظات انهيار شخصية الموت كرعب وكسلاح تبطش به الأنظمة المستبدة لتربح معركة راهنة وتكسب حرب المعنويات أبدا. وموقف المتعاطفين مع المظلوم المقدرين حرقة يأسه وانسداد الأفق أمامه، وهؤلاء ساهموا من بعيد، وعبر وسائل مختلفة في دعم الشعوب العربية الثائرة هذه الأيام. أما الموقف الأخير والأصعب حيال هذا النوع من الموت فهو ذلك الخاص بمن أريد لهم أن يتلقوه كصرخة احتجاج في وجوههم، وخطاب أحادي الاتجاه لا يمكنهم الرد عليه في هذه الحال بالمقابل كما ليس في مقدورهم منعه. وتكمن بلاغته في درجة شجاعته حيث تستحيل مقارعتها اللهم إلا بمظاهر تجسد الجبن كنقيض: من قبيل الهرب والرحيل والتواري عن الأنظار أو تقمص دور البطل لا كمنقذ وإنما كنيرون أو كسفاح لا يبقي خلفه ولا يذر.
لقد كان موت محمد البوعزيزي، الذي يكاد يكون أيقونة لهذا الأسلوب على مستوى الخارطة العربية، وآخرين حذو حذوه احتراقا فرديا لا يمكن النظر إليه بوصفه فعلا عدوانيا موجها لأي أحد آخر، أو أية جماعة قلت أو كثرت، بالرغم من أن هذه الصفة لا تلغي عنه صبغته الاجتماعية. إنه في النهاية شئنا أم أبينا لصالح المجتمع، وتعبير مر مؤلم عن مشاكل الفرد المقهور اقتصاديا وسياسيا: الفرد في حالته الفردية الاجتماعية الأكثر لبسا وامتزاجا.
يشار إلى أن الجانب الأكثر إيجابية في أسلوب الاحتجاج هذا أنه لم يتوقف عند جدران الموت الصامتة، ودخان الأجساد المحترقة وإنما أخرج منها روحا ثورية سلمية مفعمة بالحياة والأمل. وقد كان فاتحة زمن جديد يتصدره الشباب.. فهل هو خروج الحي من الميت؟ ليس ثمة وصف أقرب له من ذلك.
ورقة ثانية: إيديولوجيا التقنية
إحدى الملاحظات الهامة التي يمكن أن نستقيها من موجة التغيير العربية، أن المعتقدات الدينية والتوجهات السياسية لم تكن العامل الحاسم في ما حصل ويحصل، إلا بقدر ما توحد الناس حول مطالب مشتركة يتقاسمها الجميع ويتفق حولها. وأبعد من ذلك يمكن القول أن كثيرا من التشنجات التي كانت قائمة، وتسعى جهات مسؤولة لإثارتها، نحت إلى الاختفاء تقريبا إبان موجة الثورة كما هي حال مصر. قد يكون تراجع الحساسيات الدينية والطائفية والإثنية شبيها بما تحدث عنه أمين معلوف ذات مرة: من أن الهويات المتعددة للفرد الواحد يطغى بعضها على سواه ويبرز أكثر من غيره عندما يكون المرء مهددا فيه. وفي ضوء هذا التأويل لا شك أن الانتماء الوطني الخالص كان هو الطاغي في معظم "ميادين التحرير" العربية، وذلك في لحظة من لحظات الكشف التي تراءى فيها للشعوب والفئات الاجتماعية كافة زيف النعرات المغذاة بسياسات الأنظمة التفريقية. لحظة خاصة فهم فيها المظلومون، ضحايا سنوات الجمر والرصاص والتكميم وقمع الحريات والتجويع، أن هناك ما يوحدهم ويجعلهم في خندق واحد على عدو واحد: سواءً كان فرعونا يريد أن يخلف فرعونا، أو نظاما لا يعرف من النظام سوى فساد منظم أو تزوير معقلن.
الأمر يعود في جزء منه إلى التكنولوجيا المستخدمة في جل هذه الثورات، أعني أن وسائل الإعلام الجديد ومواقع التواصل الاجتماعي والهواتف النقالة بخدماتها المتنوعة كل ذلك كوسيلة لم يكن بعيدا عن التأثير في صغة الرسالة نفسها: هل تذكرون مارشال ماكلوهان؟ وهكذا فإن نمط الاتصال –كما توفره الانترنت وتقنيات الاتصال الجديدة- مبني الآن على أساس واسع من الانفتاح والتشارك وتعدد الاقطاب والديمقراطية، وليس على الأحادية الإعلامية. وهو ما أتاح درجة من الوعي لشرائح عريضة من المجتمع، لم تعد معها الخدع السينمائية التي تحفل بها خطابات الزعماء ووعودهم المدغدة مما ينطلي على المواطنين الذين لم يعودوا مكتوبا عليهم التحلق حول شاشة واحدة وقناة واحدة باتجاه واحد. إن حقيقة كون المطالب التي يتبناها الشباب في العالم العربي اليوم متشابهة، يعكس إسهام تقنيات الاتصال المتاحة راهنا في خلق وعي موحد وموقف عام من الأوضاع التي يعايشها في بلدانه المختلفة. وهنا لا تشكل القومية كايديولوجيا ولا وحدة النوع محركا بقدرما هو تماهي الأوضاع والتواصل عبر الشبكي.
يمكن القول أن اليوتوبيا الطافحة بحرية التعبير والرأي والديمقراطية والآمال الاقتصادية والقيم الاجتماعية الكونية التي تشكل بيئة العالم الافتراضي مكانا خصبا لخلقها والحلم بها يراد لها أن تنقل وتزرع محل الديستوبيا التي فتحت أجيال عليها عيونها ورغم صبرها لم تر ضوءا في نهاية النفق يبقيها صابرة أكثر. فالأحلام الممنوعة بمستقبل أفضل وتفاوت أقل وجدت رقعة للعيش والتعشيس بعيدا عن الأراضي المصادرة والمنابر المخنوقة، وحين نمت وربت ها هي ترنو لأن تتدلى على خارطة الواقع فتزهر وتثمر وتقطف.
لهذا لن يكون غريبا، عندما يأتي وقت تسديد الديون، أن يحسب فضل كبير للتقنية وسيحسب لها ألف حساب في المستقبل. وسيكون من المدهش، عند أدنى درجات التأمل، ملاحظة أن العالم العربي الذي لم يحطم بعد الفجوة الرقمية كان من أول المستفيدين بشكل مباشر من تكنولوجيا الاتصال والإعلام الجديدة التي جعلته يحصد موجة تغيير مفاجئة ومبشرة. فبعدما كان الإعلام مقززا منفرا لا فرق بين ليلته والبارحة، أصبح بفضل التقنيات والبدائل التواصلية التي وفرتها ديمقراطية المعرفة والمعلومات الجندي المجهول الذي يجب أن يقام له نصب تذكاري في كل عاصمة تتحرر من زبانيها على يد شباب "فيسبوك" و"تويتر" ومنصات "يوتيوب" وشعوب "مباشر" و"شارك".
ورقة ثالثة: دومينو الأنظمة العربية
اشتركت الأنظمة العربية القائمة في كونها مزمنة، وتشترك اليوم في أن انهيارها يأتي بشكل متزامن. هذه المآلات مناسبة جدا لطبيعة وخصائص ظهورها واستمرارها المتقاربة تاريخا ومضامين. الأحجار الصنمية تتداعى الآن يسقط بعضها ويرتج البعض الآخر مفصحا عن خوفه ببيانات ومبادرات ووعود التغيير الاستباقي. هبل وأبو الهول ويغوث وما لا أدري.. يهوي بعضهم فيهتز له عضو آخر في جسد الطغيان الذي يتحرك من تحته بساط الشعب كموج لا يفتر.
لطالما ما سمعنا عن وحدة الشعوب والبلدان الشقيقة، لكننا اليوم نرى الأنظمة السيامية التي تموت حين يموت أحدها. وثمة روح واحدة فاسدة تسري فيها. ذلك ما ندركه جيدا ونحن نرى بلدنا موريتانيا المختطفة تنحاز للقذافي، لا لأن الشعب لا ينحاز لشعب مثله، ولكن لأن جنرالا ينحاز لعقيد يجعلنا الأمر ضدا على خياراتنا نصطف إلى جانب الطاغية المغضوب عليه من شعبه: فهل هذه عدالة؟ هي عدالة الدفاع عن النفس وحسب. ذلك أن أنظمة عديدة ترى في ما يحيق بهذا الزعيم أو ذاك تهديدا صريحا لها وإيذانا بما سيمتد إليها من يقظة الشباب.
إن هناك جانبين لتلاحم وتناغم الأنظمة العربية المهزوزة، يدعو أحدهما للتشائم ولكن ليس لليأس: وهو ما يتجلى في دعم الجزائر وسوريا وموريتانيا للقذافي وفي تداعي بعض دول مجلس التعاون الخليجي لدعم البحرين التي تشهد الاحتجاجات الأكثر جدية والأرفع سقف مطالب حتى الآن في تلك المنطقة. أما الوجه الثاني الذي يدعو للتفاؤل فهو يتمثل في نمطية ردود الفعل التي يتبعها المهددون بالسقوط تحت ضغط المظاهرات والاحتجاجات كما شاهدنا في تونس ومصر وليبيا واليمن، فهذه النمطية في سلوك الأنظمة العربية المنبوذه تشي بنهايات متماثلة وسيناريو خطي متشابه يقودها للوقوع نحو الهاوية.
ورقة رابعة: حدود التغيير
كل سلطة تأتي من الشعب.. ولكن أين تذهب؟ تذهب السلطة التي تأتي من الشعب ويأتي بها الشعب دائما في اتجاه ما ويلتف عليها في مكان.. هذا هو القدر المؤرق الذي يتهدد كل التغيير الإيجابي قيد الإنشاء الذي نشهد خلقه هذه الأيام. يأتي الشعب بالسلطة التي يفترض دائما أن تأتي منه، لكن الأيدي الخفية للأنظمة المفككة ما تلبث وهي المدربة على سرقة الآخرين أشيائهم أن تمتد إلى ما نزع منها آنفا. تلك الصورة المقلقة، المتربصة بالآمال، لا يمكن إلا أن تقض مضاجع المنتشين بالربيع العربي الذي يتفتح. وليس في مصلحة أي ساهر على هذه الثورة أو تلك أن يستبعد من خياله الممتطي فرس البهجة مثل هذا الكابوس. فمع الثورة، لا شك تنقلب الأمور رأسا على عقب ويطال التغيير كل شيء وأي شيء، بيد أن وجوها كثيرة تضع ماكياجا مؤقتا لركوب قطار المستقبل المنطلق، وتبقي على هوياتها السابقة دون مساس. أولئك هم الخطر الأغبر الملتحف عباءة العهد الجديد وغير القادر على فسخ جلده والتحرر من روحه الشريرة.
إن قابلية الأفراد والشعوب للتحول نحو الأفضل والأصلح لا جدال فيها، وما الثورات إلى تجسيد استثنائي لهذه الإمكانية. ولكن تجاربا كثيرة تعلمنا أنه لا بد من التساؤل في مثل هذه الظروف عن حدود التغيير. فالأنظمة الفاسدة التي يراد لها أن تسقط هي في نهاية المطاف أنظمة وليست مجرد رؤوس. وحين يكون الفساد والظلم والسياسات الفاشلة أمورا ممأسسة، تكون رغبات الانعتاق في أمس الحاجة إلى أن تكون منظمة وشاملة ومحصنة بامتلاك نظم بديلة قوامها الشفافية والعدالة والفاعلية لتحل محل الأنساق المفككة.
إن حدود التغيير لا يضيقها شيء ويمنع اتساعها كالاكتفاء بمنجز دون إكمال المنجزات المطلوبة كافة. وحتما فإن من حق الذين انتصروا بعد عناء أن يفرحوا، ولكن واجبهم أن يحذروا. وليتذكروا أيضا أن المساوئ التي ناضلوا ضدها لن تزال لها جحور آمنة حصينة في زوايا المجتمعات التي نخرها الفساد وشوهت عقولها الأنظمة الآفلة، ولا داعي لنسيان ما يمكن أن تلبسه الوجوه الباقية في أي وقت من أقنعة مصطنعة خادعة.